- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العبادات معللة بمصالح الخلق :
أيها الأخوة الكرام: يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
العبادات في الإسلام كما قال الإمام الشافعي معللة بمصالح الخلق، بل إن بين العبادة ونتائجها علاقة علمية، لأن العبادة منهج الله عز وجل، وهو الخبير ما ينفع الإنسان في دنياه وأخراه، فالصيام في تعريف الفقهاء إمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر الصادق وحتى الغروب بنية العبادة والطاعة، لأن هذا النهي أيها الأخوة عن شهوة الطعام والشراب وعن شهوة أخرى شهوات مباحة وفق منهج الله عز وجل ومحببة للإنسان، وقد ورد في الحديث القدسي:
(( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ))
وفي رواية أخرى: يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي .
أيها الأخوة الكرام: تشير هذه الآية الكريمة إلى أن مبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر، فهو ركن تعبدي موجود في الشرائع السماوية السابقة للإسلام، إنه منهج الله في تربية الإسلام، أما قوله تعالى:
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
أي لعلكم تدعون المعاصي وتلتزمون الطاعات لا في شهر رمضان فحسب بل في كل أشهر العام.
الصيام الحقيقي أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان :
أيها الأخوة الكرام: أدق نقطة في هذا الموضوع هي أن هؤلاء الذين يمتنعون عن بعض المعاصي في رمضان ثم يعودون إلى ما كانوا عليه قبل رمضان هؤلاء ما فقهوا حقيقة الصيام، أرادنا الله بالصيام أن نقفز قفزة تستمر طوال العام، لا أن نعود كما كنا قبل رمضان، ليس القصد أن ننتصر على أنفسنا في رمضان ثم ننخذل أمامها بقية العام، ولكن الصيام الحقيقي أن نحافظ على هذا النصر على طول الدوران وتقلبات الزمان والمكان، ليس القصد أن نضبط ألسنتنا في رمضان فننزهها عن الغيبة والنميمة وقول الزور، ثم نطلقه بعد رمضان إلى حيث الكذب والبهتان، ولكن الصيام الحقيقي أن تستقيم منا الألسنة، وأن تصلح فينا القلوب مادامت الأرواح في الأبدان، ليس القصد أن نغض أبصارنا عن محارم الله وأن نضبط شهواتنا غير المشروعة برمضان ثم نعود إلى ما كنا عليه بعد رمضان، إنّا إذاً كما قال الله عزوجل:
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾
ولكن الصيام الحقيقي أن تصوم جوارحنا عن كل معصية في رمضان وبعد رمضان حتى نلقى الواحد الديّان، ليس القصد أن نتحرى الحلال خوفاً من أن يرد علينا صيامنا ثم نتهاون في تحريه بعد رمضان على أنه عادة من عوائدنا، ونمط شائع من سلوكنا، ولكن الصيام الحقيقي أن يكون الورع مبدأ ثابتاً وسلوكاً مستمراً في حياتنا، ليس القصد أن نبتعد عن المجالس التي لا ترضي الله إكراماً لشهر رمضان ثم نعود إليها وكأن الله ليس لنا بالمرصاد في بقية أشهر العام، ليس القصد أن نراقب الله في أداء واجباتنا وأعمالنا مادمنا صائمين فإذا ودعنا شهر الصيام آثرنا أنفسنا على أمانة أعمالنا وواجباتنا، مثل هذا الإنسان الذي لم يفقه حقيقة الصيام ولا جوهر الإسلام إنه كالناقة حبسها أهلها ثم أطلقوها لا لم حبست؟ ولا لم أطلقت؟
الحكمة من اصطفاء الله تعالى شهر رمضان :
أيها الأخوة الكرام: الشيء المهم جداً الذي ينبغي أن نستوعبه هو أن الله تعالى لم يصطفي رمضان من بقية الشهور ليكون شهر طاعة وقرب فحسب، بل أراده الله شهراً يتدرب فيه الإنسان على الطاعة حتى يذوق حلاوة القرب وعندها تنسحب هذه الطاعة، وذاك القرب على كل شهور العام .
محور هذا الموضوع أن تستمر بعد رمضان على ما أنت عليه في رمضان، هذا أهم ما في الموضوع، عوام الناس يصومون ويعودون إلى ما كانوا عليه قبل رمضان:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
***
الحكمة من الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات :
أيها الأخوة الكرام، الشيء المهم الآخر هو أن الله سبحانه وتعالى أراد رمضان أن يكون على طول الدوران، والحكمة من أن الله أمرنا بالإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غياب الشمس هي أن الإنسان حينما يدع ما هو مباح امتثالاً لأمر الله لا يستطيع ولا يتوازن مع نفسه حينما يدع ما هو مباح امتثالاً لأمر الله أن يقترف ما هو محرم عندئذٍ يختل توازنه، أمرك أن تدع الطعام والشراب فلأن تدع المعاصي والآثام من باب أولى، فمن ترك الطعام والشراب واقترف الآثام اختل توازنه كأن الله عز وجل أرادنا بهذا الشهر أن تتقوى إرادتنا، وأن نملك ناصية أمورنا، وأن نشعر بقيمة إنسانيتنا.
اصطفاء مكان و زمان و إنسان معين ليسعد الإنسان سعادة أبدية :
أيها الأخوة الكرام: وحينما يصطفي الله شهراً من الشهور لتصفوَ فيه العلاقة بالله يصطفيه من أجل أن يشيع هذا الصفاء مع الله في كل الشهور، لأن الله مع المؤمن في كل زمان، الشيء بالشيء يذكر وحينما يصطفي الله مكاناً كبيته الحرام ويدعو المؤمنين إليه ليذوقوا حلاوة القرب فيه أراد أن ينسحب هذا القرب على كل الأمكنة لأن الله مع المؤمن في كل مكان، وحينما يصطفي الله إنساناً فيكشف له الحقائق إنما يصطفيه ليكشف من خلاله الحقائق لكل الناس، وحينما يصطفي الله إنساناً ليوحي إليه الأمر والنهي والمنهج القويم إنما يصطفيه ليكون هذا المنهج مطبقاً لدى كل الناس.
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾
أيها الأخوة الكرام: إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، حينما يصطفي الله إنساناً ليسعده سعادة أبدية إنما يصطفيه ليسعد بدعوته كل الناس، مجمل القول: أن الله سبحانه وتعالى يصطفي زماناً كرمضان، ومكاناً كبيته الحرام، وإنساناً كسيد الأنام، إنما شاء الله ذلك أن يشيع الصَفاء الإنساني في كل الناس، والصَفاء المكاني في كل الأمكنة، والصَفاء الزماني في كل الأزمنة.
الله عز وجل لا يكلف النفس إلا وسعها :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
إنها أيام قليلة تعد على الأصابع، اصطفاها الله عز وجل لتكون أيام طاعة وقرب، فلعل الطاعة والقرب تستغرق كل أيام العام.
﴿ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
الله جل جلاله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وسع النفس لا يستطيع أي إنسان أن يقدره بعقله، لكن الله وحده الذي خلق والذي صنع بعلمه وخبرته وحكمته ورحمته هو وحده الذي يقدر الوسع، فهو جلّ جلاله يعطي الرخصة عندما يكون التكليف فوق الوسع، وتحديد المرض الذي يبيح الفطرة يكون بغلبة الظن، أو بإخبار طبيب مسلم ورع حاذق، وكذلك السفر الذي تقصر فيه الصلاة يعد علة للإفطار في رمضان، لذلك لا يقبل في الدين أن يقول إنسان من خلال تحكيم عقله في موضوع تكليفي: هذا الأمر لا أقدر عليه والله لن يؤاخذني على تركه إلا أن ترد في هذا الأمر رخصة من الذي خلق الإنسان ويعلم حقيقة وسعه في أحد الوحيين بالكتاب والسنّة، وحينما يطيق المسلم الصيام في السفر أو في المرض فالأولى أن يصوم لقول الله عز وجل:
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام هذا وجه من وجوه تفسير هذه الآية، ولأن القرآن حمَّال أوجه فهناك وجوه أخرى لتفسيرها.
أيها الأخوة الكرام: الشريعة كلها رحمة، كلها مصلحة، كلها عدل، فكل قضية خرجت من الرحمة إلى القسوة، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل، فهذا الذي يدعي أنه ورع، ويصر على الصيام مع أن الأطباء ولا سيما المؤمنون منهم والورعون والمتفوقون حذّروه من الصيام ينبغي أن يفطر امتثالاً لمنهج الله عز وجل، ولئلا يلقي بنفسه إلى التهلكة .
الاتجاه بالشكر إلى الله على نعمتي المعرفة و القرب :
أيها الأخوة الكرام: مادام الصائم قد ذاق حلاوة القرب في شهر الصيام فهو سيتجه بحكم فطرته إلى الشكر لله تعالى على ما أولاه من نعم المعرفة والقرب، وهنا من المناسب جداً أن يقول الحق جلّ جلاله عقب هذه الآيات:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
إذا سألك، ولم يقل إن سألك، لأن الفرق كبير بين إذا وبين إن، إذا تفيد تحقق الوقوع.
﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾
لا بد من أن يأتي.
﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾
بنبأ قد يأتي أو لا يأتي، إذا تفيد تحقق الوقوع بينما إن تفيد احتمال الوقوع.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾
أي لابد من أن يسألوا عني.
من لوازم معرفة الله والتنعم بقربه التوجه إليه وحده بالسؤال والدعاء :
أيها الأخوة الكرام: من لوازم معرفة الله عز وجل والوصول إليه والتنعم بقربه التوجه إليه وحده بالسؤال والدعاء، وهذه هي حقيقة التوحيد وهو جوهر الدين، وكل دين سماوي، قال عليه الصلاة والسلام :
(( ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ))
لو تأملتم أيها الأخوة في آيات القرآن في مادة السؤال لوجدتم أن كل سؤال ورد في القرآن الكريم، ورد في جوابه كلمة قل:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ﴾
إلا في هذه الآية:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
لن ترد كلمة قل بين السؤال والجواب، لذلك استنبط العلماء من عدم وجود كلمة قل بين السؤال والجواب أن الله عز وجل ليس بينه وبين عباده وسيط.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
لمجرد أن تقول: يا رب، يقول الله عز وجل: لبيك يا عبدي.
العبد نوعان؛ عبد قهر و عبد شكر :
أيها الأخوة الكرام:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾
قال بعض العلماء: العبد نوعان، عبد قهر، وعبد شكر، فكل إنسان عبد مقهور لله عز وجل، مقهور في وجوده، وفي قيامه وحركته، مقهور في حواسه ونشاطه، والله سبحانه وتعالى هو الذي أقامه على ما هو عليه، فلو انقطع عنه الإمداد لحظة واحدة لفقد وجوده، واستمرار وكمال وجوده، فكل عبد هو عبد قهر إطلاقاً، لكن العبد الذي يأتي الله عز وجل يأتيه طواعية، ومستجيباً لأمره، ومحباً ومنيباً ومقبلاً هذا اسمه عبد الشكر، فالذي يأتيه قصراً، الذي تتوقف حياته على إمداد الله له هو عبد القهر، أما الذي يتوجه إلى الله طواعية بمبادرة منه فهو عبد الشكر، لذلك تجمع كلمة عبد على عبيد وعلى عباد، فإذا قال الله عز وجل:
﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
تعني عبيد القهر، لكن الله عز وجل حينما يقول:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾
جمع لعبد الشكر، فإذا كنت من عبيد الله الشاكرين فأنت من عباد الله الصالحين.
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ﴾
الحكمة من عدم استجابة الله لمن يدعوه في بعض الأحيان :
أيها الأخوة الكرام، لماذا لا يستجيب الله أحياناً لمن يدعوه؟ هذا سؤال أجاب عنه النبي الكريم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه قال:
(( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) وَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ثُمَّ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))
ياسعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، وأن يكون طعامك طيباً تسعة أعشار الدين، بمعنى أن تشتريه بمال حلال، بمعنى أن تكون مستقيماً في كسب المال، وكسب المال يعد باباً كبيراً من أبواب الطاعة، وكسبه بشكل غير مشروع يعد باباً كبيراً من أبواب المعصية.
الدعاء سلاح المؤمن :
أيها الأخوة الكرام:
﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
تؤمن بالله عز وجل، وتستجيب لأمره فيجيب دعائك، وإذا آمنت به واستجبت إلى أمره أرشدت إلى الدعاء المستجاب، وإلى مضمون الدعاء الذي ينفعك في الدنيا والآخرة.
أيها الأخوة الكرام: حينما لا يستجاب الدعاء يعزى ذلك إما إلى فساد الداعي وانحرافه عن منهج الله، أو أنه ليس من الرحمة ولا من الحكمة أن يستجاب له، فلو كشف الغطاء لاخترتم الواقع، وعلى كل حظ المؤمن من الدعاء الإجابة أو التعبد، فالدعاء كما قال عليه الصلاة والسلام: هو العبادة .
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾
ولكنك أيها الأخ الكريم لا تدعو إنساناً لا وجود له، فإذا كان موجوداً لا تدعو إنساناً لا يسمعك، فإذا كان يسمعك لا تدعو إنساناً ليس قادراً على أن يجيبك، فإذا كان قادراً لا تدعو من لا يحبك، فحينما تدعو إنساناً لقضية أو لحاجة أنت موقن يقيناً قطعياً أنه موجود أولاً، ويسمعك ثانياً، وقادر على إجابتك ثالثاً، ويحب أن يرحمك رابعاً، فإذا دعوت الله وحده فقد تحققت فيك هذه الخصائص، أنت مؤمن بوجوده وبعلمه وبقدرته وبمحبته، لذلك الدعاء هو العبادة، قال بعض العلماء: والذين هم على صلاتهم دائمون في الدعاء، دعاؤهم مستمر، وقال بعضهم بمعنى الدعاء أنه عبادة العبد من شأنه أن يفتقر إلى الله عز وجل، والله عز وجل من شأنه العطاء، والعلاقة بين العبد المفتقر والإله العظيم هو العطاء والطلب، لذلك قال الله تعالى:
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً ﴾
أنت بالدعاء أقوى الناس، الدعاء سلاح المؤمن، خالق السموات والأرض، من بيده ملكوت كل شيء، من إليه يرجع الأمر كله، يقول لك: ادعني لأستجب لك، و هناك معنى دقيق جداً هو أن الله عز وجل ما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا وإلا لما كان هذا الأمر واضحاً، وذا معنى، ما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب لنا، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليعيننا، وما أمرنا أن نتوب عليه إلا ليتوب علينا، فمن هو العاجز؟ هو الذي عجز عن أن يستغفر الله، وأن يدعوه، وأن يتوب إليه، ويستعين به، ما أمرك أن تستعين به إلا ليعينك، وما أمرك أن تدعوه إلا ليجيبك، وما أمرك أن تتوب إليه إلا ليتوب عليك، والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً.
رمضان شهر التوبة والمغفرة والصلح مع الله :
هذا الشهر أيها الأخوة شهر فيه صلح مع الله، من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه:
(( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ ))
وموطن الشاهد في هذا الحديث ورغم أنف عبد أدرك رمضان فلم يغفر له، إن لم يغفر له فمتى؟ هذا شهر التوبة والمغفرة والصلح مع الله، والعتق من النار، أن تفتح مع الله صفحة جديدة، أن تعود إلى فطرتك، وتحقق إنسانيتك، أن تسعد بقرب الله عز وجل، شهر التوبة والغفران، فرصة سنوية كي يمحى الماضي، وتشحن شحنة روحية تعينك على متابعة منهج الله طوال العام القادم. اللهم أعنا على الصيام والقيام، وغض البصر وحفظ اللسان، وأدخلنا الجنة بسلام.
أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.